Quantcast
Channel: متــــرجـــــم عـــربی - دکتر مهدي شاهرخ
Viewing all articles
Browse latest Browse all 578

لغة الشعر عند بدر شاكر السیاب وصلتها بلغة المصادر العربیة القدیمة

$
0
0

 لغة الشعر عند بدر شاكر السیاب وصلتها بلغة المصادر العربیة القدیمة

د . فاروق مواسی

 مقدمة
 
في هذه الدراسة محاولة لاستقراء أسلوب بدر شاكر  السياب ( 1926 – 1964 ) ولغته، باعتباره رائدًا من رواد الشعر الحر، ترك أثره في التجديد الشكلي والمضموني وتناولته الدراسات الأدبية الكثيرة.
ونحن هنا إذ نتمم الجانب اللغوي ندرك أن مثل هذه الدراسة فيها جدة –طريقة ومنهجًا- فمن رواد البحث اللغوي للأدب العربي عامة ، والشعر العراقي خاصة  كان د. إبراهيم السامرائي في كتابه "لغة الشعر بين جيلين"، فقد وقف فيه على ظواهر لغوية في شعر عدة شعراء، رغم أن دراسته لم تكن بمنهجية وتنظيم ،  بل يشوبها الكثير من الأحكام التقريرية، فهو إذ يعالج مشاكل اللغة لا يتورع من استعمال كلمة "أخطأ" (1).
ونحن هنا لا نحكم بالخطأ ،  ولو خرج الشاعر عن المألوف، بل نضع في اعتبارنا ما قاله روبنشتاين:
"الجملة الصحيحة في لغة ما هي الجملة القائمة فعلاً ، وليست الجملة التي من المنطق أن تكون، وإلا فإننا لا نتجاهل الحاجات العلمية الموضوعية فحسب، وإنما نتجاهل طبيعة اللغة المتطورة"(2).
إذًا فسبيلنا في هذه الدراسة أن نستقصي الظواهر البارزة في استعمالاته اللغوية - كما هي -  مفترضين أن الشاعر يكرر ظواهر معينة هي بمجموعها تكوّن أسلوبه، وأنه يحاول المزج بين العناصر القديمة والجديدة.
 أما العناصر القديمة عند السياب فتتمثل بتأثره من القرآن والشعر واستعماله اللفظة المعجمية الغربية، ذلك لأني- قارئًا  للشعر- ألمس استفادته من القرآن والشعر القديم - بشكل لا يضاهيه شاعر قديم أو محدث، وهذا القول لا يعني تجاهل بعض الشعراء ممن ضمّنوا أشعارهم بمثل هذه العناصر  ، كالبياتي مثلاً(3).
وليس من شأننا عند تناول الأصداء القديمة أن نعالج مثلاً أي الشعراء تأثر بهم السياب، أو كيف تطور الأسلوب عنده من ديوان إلى آخر، ذلك لأننا سنبحث عن كل صدى قديم في مجموع شعره، وسنحاول تصنيف هذه الإفادات: هل بقيت على حالها؟ هل تطورت؟ فإن وجدنا ظاهرة معينة في ديوان معين أشرنا إليها، وأن رأينا شاعرًا قديمًا معينًا له تأثير أبرز من سواه فإننا لا نؤكد أن السياب متأثر به، فربما يعود الأمر إلى أن كاتب هذه الدراسة يحفظ لهذا الشاعر القديم أكثر من سواه؛ وليست عملية جمع الأصداء ميسورة وهي عند كل باحث تختلف عما هي عليه عند الآخر.
وأما العناصر الجديدة فهي الظواهر غير المألوفة على اللغة القديمة، ولكن الكثير منها مألوف في لغة الأدب الحديث. وليس في وسعنا أن نؤكد ميزة لغوية خاصة بالشاعر مقصورة عليه، بل نرى الظواهر البارزة والمتكررة كالجمل الإنشائية والاعتراضية وجمل التشبيه -  مثلا - وفي ظواهر أخرى سنهتدي إليها، ونرى فيها جميعًا صورة واحدة هي صورة لغة السياب، فإذا ما استقصينا الجمل الإنشائية ودللنا على بروزها عند السياب فهذا لا يعني:
أ- أن الجمل الخبرية أقل.
ب- أن غيره من الشعراء لا يستعملها، فالجمل الإنشائية من طبيعة الشعر، وإنما بتراكم هذه الجمل وتكرار أدوات الاستفهام والتمني والنداء وغيرها نؤكد أن هذه سمة من سمات شعره، وليس من سبيل أن يملك المرء الحكم والتقرير إلا إذا ملك اطلاعًا كافيًا على قديم الشعر وحديثه.
نعود إلى القول أننا نفترض أن الشاعر يكرر ظواهر معينة في شعره، وهو يمزج بين العناصر القديمة والحديثة.
من خلال هذا المنطلق نعمد إلى تصنيف الظواهر اللغوية في مجموعة السياب الكاملة "ديوان بدر شاكر السياب"ج 1 ،  فإذا اقتبسنا منه نشير إلى رقم الصفحة مجردًا، كما نضيف إليها ديوان "البواكير"لاحتوائه على قصائد ليست في المجموعة الكاملة، فإذا اقتبسنا منه نشير في الحاشية "البواكير"مضافـًا إلى رقم الصفحة فيه.
ودراسة لغة الشعر عند السياب بالإضافة إلى أنها استمرار وتطوير لفكرة السامرائي فهي تطمح أن تغطي النقص الذي أشار إليه د. إحسان عباس في نهاية كتابه "بدر شاكر السياب"في وجوب بحث الأساليب اللغوية عند السياب، وهو ما أشار إليه د. لويس عوض في مقاله "شناشيل معبد الأقتان" (4) في ضرورة بحث الظواهر اللغوية عند السياب، وما أشار إليه اللغوي إبراهيم أنيس في ضرورة بحث اللغة في الشعر العربي عامة (5).


"الفصل الأول
ظواهر بارزة في مبنى الجملة:-
2 - بين القديم والجديد.
ظواهر أخرى بارزة في مبنى الجملة.
3- أصوات جديدة.
 
 
أصداء قديمة
 
أ‌- مدخل إلى الأصداء القرآنية في شعر السياب:
 
القرآن بأسلوبه ولغته له تأثير على كل شاعر وناثر، بيد أن السياب يبرز ويتميز بكثرة اقتباساته من الألفاظ القرآنية، بل إننا نرى في كل قصيدة "  تحويماتــه "  في الأجواء القرآنية: في ارتباطه بالعبارة أو المضمون أو الأسلوب، فهو يطعّم شعره بالروح التراثية مستغلاً ثقافته العربية؛ وفي بروز هذه الظاهرة دعوى للقارئ أن يستقبل الشعر الحديث ويأنس به، إذ أن مثل هذا الشعر المتصل بالشعر القديم والقرآن يستهوي إليه القارئ التقليدي، بالإضافة إلى أن القارئ الحديث يجد بهذه الاقتباسات والانتفاعات ثقافة واطلاعًا.
ففي لغة السياب كثيرًا ما نقع على تركيب أو جملة مأخوذة من القرآن أصلاً، يسوقها في شعره كما هي بمعناها الأول أو في سياق جديد. وليس سبيلنا أن نذكر في كل استعمال كيف كان في القرآن وكيف غدا  عند السياب إلا إذا وجدنا ضرورة تحتم ذلك. ومن أساليب القرآن المتنوعة وجدنا بعض الاستعمالات في شعر السياب جمعناها لنشير بأنه استعملها من غير بتّ أنها من القرآن حصرًا وقصرًا.
ونحن هنا لا نتحدث عن مواضيع القرآن في تناولنا المضمون، بل نقف عند الآية ذاتها، وكيف كانت عند السياب، ودليلنا إلى ذلك وجود كلمة أو أكثر توحي لنا بالأصداء القرآنية، فإذا قال الشاعر:"حبل من الليف" (6) فإننا نستذكر قوله تعالى "حَبْلٌ مِنْ مَسَد" (7). فالمسد هو الليف ولسنا نرى وجوب المقارنة، وان قال الشاعر:- "علينا عقاب برئوا منه واقع" (8) فإننا نتذكر "سَألَ سائِلُ بِعَذابٍ واقِع" (9) فالعذاب في القرآن هو العقاب عند السياب. وما من شك في أن الشاعر بكثرة استفادته من القرآن قد حافظ على جزالة اللغة ،  واقترب من المألوف اللغوي ، ومهد لاستقبال التراكيب الغربية مما سنعمد إليه .
 
تأثير القرآن على السياب
 
1- في الأسلوب.
2- في التعابير.
3- في المضمون.
4- الأجواء القرآنية.
5- ألفاظ قرآنية بارزة.
1- في الأسلوب:
في القرآن أساليب مختلفة من تكرار ونداء واستفهام وتمنٍّ وإيجاز وحذف وغيرها، وإليك بعضًا من هذه الأساليب التي استعملها السياب:
أ- التكرار: ظاهرة تلازم شعر السياب، ولها أصول في القرآن، وعلى سبيل المثال ما ورد في سورة الرحمن، ونحن هنا لا نجزم أنه استفاد التكرار من القرآن مباشرة، بل نؤكد أن أسلوب التكرار وارد كثيرًا في القرآن، وربما كان له تأثيره على الشاعر.
(أنظر موضوع التكرار – ملاحظة 397 وما بعدها ).
ب- التمني: ففي قول السياب "يا ليتني ما زلت في لعبي" (10) يذكرنا بتمنيات مشابهة مبدؤه ب "يا ليتني"وردت في القرآن (11) وحتى المعنى يتطابق أحيانًا ...فالسياب يقول:
"يا ليتني لم أكن رأيتك من قبل ولم ألق منك عطف حنون
آه لو لم تعوديني على العطف وأه لو لم أكن أو تكوني" (12).
فهو مستمد من قوله تعالى: "يا لَيْتني مِتُّ قَبْلَ هذا وكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًا" (13).
ج- أما الاستفهام والتكرار في أداته فاقرأ قوله تعالى: "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السماءِ والأرضِ أمْ مَنْ يَمْلُكُ السَّمْعَ والأبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدّبِرُ الأمرَ..." (14).
وهذه الطريقة تتكرر عند السياب ، ولنذكر مثلاً:
"فمن يسمع الروح من يبسط الظل
في لافح من هجير النُّضار
ومن يهتدي في بحار الجليد إليها،
فلا يستبيح السكينة" (15).
د- ومن أساليب القرآن القسم ، فكثيرًا ما نرى -  وخاصة في مطالع السور قسمًا مبتدئًا بالواو: "والتين والزيتون"، "والفجر"، "والليل" ...الخ.
والسياب في ديوانه "البواكير"استعمل هذا الأسلوب على غرار ما ذُكر  في القرآن ، وذلك  إذ يقول:
"والعصر مخضوب البنان
 وأزاهر الحقل الحسان
والصبح يملأ بالندى عطرًا سلال الأقحوان
والبدر وهو مظلة لليل يمتلك افتتاني
إن الفؤاد لفي ضلال..." (16).
وهو تتبع لأسلوب القرآن - وخاصة في سورة العصر ،  إذ تبدأ بنفس الكلمة "والعَصْرِ"،  ثم ما يلبث أن يقول: "إِنَّ الإِنسانَ لفي خُسْر" (17).
وجملة السياب "إن الفؤاد لفي ضلال"جوابًا للقسم جاءت على نـمط  الآية وطريقة ترتيب كلماتها.
ه- واستعمال المفعول المطلق عند السياب كثير نذكر بعضها:
"وهي تسفه سفّـا" (18).
"يزحف تحتنا زحفا" (19).
وما أكثر هذه الصيغة في القرآن: "أنَّا صَبَبْنا الماءُ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنا الأرْضَ شَقّا" (20).
وحتى أن بعض الكلمات يكررها السياب كما هي:
"قد فتحت فتحًا مبينًا مضاربه" (21).
وقد ورد في القرآن: "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبيناَ" (22).
و- الأسلوب القصصي- ونورد مثلاً مشابهًا للقرآن نصًا وروحًا من السياب:
"اروي لنا نبأ الطريد فأنت راوية الزمان
أغوته حواء فسد يديه نحو الأفعوان
ذاقا فكانا ظالمين فكيف يُجْزى الظالمان؟
وبدا الموارى منهما فإذا هنالك سوءتان
وعليهما طفقا من الورق المهدل يخصفان" (23).
وهذا السرد الشعري استقى أغلب ألفاظه من القرآن:
"فلمّا ذاقا الشَجرةَ بَدَت لهما سوءاتُهُما وطَفِقا يَخْصِفان عليهما مِن وَرَقِ الجَنّة، ونادَاهما رَبُّهما أَلَمْ أَنْهَكُما عَن تِلْكُما الشجرةِ وأقُلْ لَكُما إنَّ الشيطانَ لكُما عَدَوٌّ مُبين، قالا ربَّنا ظَلَمْنا أَنُفُسَنا...." (24).
ز- استعمال "مِنْ"الزائدة ،  وتكون مسبوقة بنفي أو استفهام  ، كقوله تعالى: "ما أُريد مِنْكم مِنْ رِزْق" (25) والسياب يستعمل هذا الأسلوب في قوله: "ما لها من مَرْسى" (26) وسنرى في تناولنا لجملة العطف وضمير الشأن أثر القرآن كذلك.
 
2- استعمال تعابير وتراكيب قرآنية:
 
فالمثل الذي سقناه، "فتحت فتحًا مبينًا مضاربه"مأخوذ كلماته كما قلنا من القرآن ،  وما أكثر ما يضمن الشاعر تراكيب  كما هي:
"والجوع لعنة آدم الأولى وارث الهالكين
ساواه والحيوان ثم رماه أسفل سافلين" (27)
ومن المؤكد أن الشاعر نظر إلى  الآية "ثم رددناه أسفل سافلين" (28)  ، وما فعل إلا أن استبدل كلمة بكلمة لملائمة الوزن الشعري.
وفي القرآن: "فهي خاويةٌ على عُروشها وبِئْرٌ مُعَطَلةٌ وقَصْرٌ مَشيد" (29).
و ها هو السياب يكرر حروف العطف على نسق القرآن ،  ويستعمل تركيبًا ورد في الآية السابقة :
"خاتم وسوار وقصر مشيد
من عظام العبيد" (30).
وفي قول السياب:
"وكأن- يا بشرى- كأن هناك في أقصى الجنوب" (31) تذكرة  بدعوة البشارة:"قال- يا بشرى-
هذا غلام" (32).
والاستعمالان اعتراضيان.
ويقول السياب: "ويصدى كل فج" (33 ، )فسرعان ما يتبادر إلى أذهاننا تركيب "كل فج..." (34).
وفي قول الشاعر: "قضي الأمر بالسفر" (35) استخدام لـ "قضي الأمر"الواردة في القرآن (36).
ومن التعابير القرآنية "ملح أجاج"و "عذب فرات"يقول تعالى: "هذا عَذْبٌ فُراتٌ وهذا ملحٌ أُجاج" (37).
فالسياب يقول مستعملا التركيبين:
"فما دهاه اليوم حتى غدا-
ملحًا أجاجًا بعد عذب فرات" (38).
كما يستعمل كلمة (  أجاج )  بمعنى المالح: "شربت أجاج الماء" (39).
والنفخ في الصور وارد في القرآن: "يومَ يُنْفَخُ في الصور فتأتون أفواجا" (40)  ، فيقول السياب وهو يتمنى أن يكون له صوت قوي: "كنفخ الصور يسمع وقعة الموتى" (41).
وفي تعليق السياب: "وحق العقاب" (42) تطابق مع قوله تعالى: "إن كُلٌّ إلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فحَقَّ عِقاب" (43) .
وقول السياب في سياق ديني: "لقد أغضب الآثمون الإله وحق العقاب".
واستعمال "المن"و "السلوى"في الشعر عنده مأخوذ من القرآن "وأنزَلْنا عليهِم المَنَّ والسَّلْوى" (44) فالمن والسلوى المنزلان على بني إسرائيل يجعلهما الشاعر للاجئين ولكنهما من نوع جديد: من شعير، يقول السياب:
"يا مكتبا للغوث هب للتائهين
منًّـا وسلوى من شعير" (45).
تبين لنا مما سلف أن الشاعر يتناول التركيب القرآني  ويدخله في نسيج شعره، ولم نلحظ فيما تتبعنا  أنه اقتبس آية بكاملها ، كما عهدنا ذلك  في بعض "الاقتباسات"البلاغية القديمة.
 
3- في المضمون:
 
الشاعر يتأثر بمضامين القرآن، فهو يتحدث عن الجنة والثمر.. وكأنه يستذكر قوله تعالى: "ولهم فيها مِنْ كُلِّ الثَّمَرات" (46) ،  فيقول السياب:
"من نخل جيكور أجني دانـي الثمر" (47).
"لن أرى جنة الهوى- لا ولن اقطف الثمر" (48).
وهذا يذكرنا بقوله تعالى وصفًا لجنته -  "قُطوفُها دانِيَة" (49  ؛ بل هناك آيات أعاد السياب صياغتها شعرًا:
"وبدا الموارى منهما فإذا هناك سوءتان
وعليهما طفقا من الورق المهدل يخصفان" (50).
وهذان البيتان مستمدان من قوله تعالى:
 "فلما ذاقا الشَّجَرةَ بَدَتْ سَوْءاتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عليهِما مِنْ وَرَقِ الجَنّة" (51).
وعندما يقول السياب عن المسيح:
"فسار يبعث الحياة في الضريح
ويبرئ الأبرص أو يجدد البصر" (52).
كما يقول في مكان آخر : "سيبرئ الأعمى- ويبعث من قرار القبر ميتا" (53).
فالسياب يتأثر مباشرة من مضمون الآية التي تتحدث عن المسيح: "وأُبْرئُ الأكُمَةَ والأَبْرَصَ وَأُحْيي المَوْتى" (54).
ويقول الشاعر:
"وفتحت السماء لغيثها المدرار بابـًا بعد باب" (55)،.
فهو قد استذكر قوله تعالى: "وفُتِحَتِ السَّماءُ فكانَتْ أبْوابا" (56).
وكلمة "السماء"ارتبطت بكلمة "مدرار"في ثلاثة مواضع في القرآن (57)، فلا عجب إذا رأينا لصوقهما عند الشاعر.
وفي سورة مريم يقول تعالى: "وهُزّي إليْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ رُطَبًا جَنِيّا" (58).
والسياب يقول:
"إنه الرطب
تساقط في يد العذراء وهي تهز في لهفة
بجذع النخلة..." (59).
فالشاعر تخيل ما حدث بعد أمر الله إلى مريم، وهو يتحدث عن النخل في العراق ...ثم عن المطر والخير اللذين يعقبانه، فالرطب عطاء لمريم ساعة الضيق، وهو ما يتشوق إليه الشاعر حتى يتخلص مما يعانيه.
يقول د. عز الدين إسماعيل في مقالـة له: "فالشاعر الذي هدّه السفر وأيأسه المرض لا بد أن ينتظر معجزة تفتح أمامه باب الحياة من جديد، وتذهب بالمخاوف في نفسه وتشيع فيها الأمن، ولنتدبر كيف تسرب هذا المعنى إلى نفس الشاعر من بقية الآية، لقد اتخذت الآية الكريمة في نفس الشاعر مسارًا نفسيًا خاصة وتحددت أمامه ببعد شعوري يرتبط بأزمته الراهنة" (60).
وفي حين يقسم القرآن "والليل إِذا عّسْعَس" (61) يستعمل شاعرنا نفس الكلمات بصيغة الشرط: "وإن عسعس الليل" (62)، "حين يعسعس الوسن" (63)، والآية القرآنية المذكورة متلوّة بآية أخرى "والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّس"لكن الشعر آثر أن تتغير كلمة "الصبح"فيأتي بمرادفة لها ، وذلك  إذ يقول: "تنفس الغد في اليتيم" (64).
ومن تأثير القرآن مضمونًا ما قاله السياب:
"سيعلمون من الذي هو في ضلال" (65).
والآية تنص: "فَسَتَعْلمونَ مَنْ هو في ضَلالٍ مُبيِن"(66) وهو تطابق إلا ما ألزمته الضرورة الشعرية واللغوية.
وقول السياب: "أنا مع الصبح على موعد" (67)، صياغة أخرى لقوله تعالى: "إِنْ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْح" (68).
فالموعد في الحالين هو في الصباح، أما ما يتبع ذلك فهناك تباين، إذ معنى "الصبح"في القرآن وارد على وجه التعميم بترقب العذاب والتهديد للكفار، بينما "الصبح"عند الشاعر هو رمز تفاؤل وخير.
 
4- الأجواء القرآنية والإيحاء:
 
لعل أبرز ما يوحي لنا بهذه الأجواء بعض الكلمات التي تشير إلى الصورة القرآنية، فعندما يقول الشاعر:
"فرأى القبور يهب موتاهن فوجًا بعد فوج" (69). فان كلمة "فوج"تستدعي تذكّرنا للموقف يوم القيامة: "يَوْمَ يُنْفَخُ في الصّورِ فَتَأتون أفْواجا" (70).
 وفي قول السياب: "يتنفس في كهف هار" (71) يخطر في بالنا قوله تعالى: "جُرُفٍ هارٍ" (72) ،  والشاعر استعمل "هار"بعد الاسم الموصوف ،  لأنه يريد أن يبين عمق المكان ونتانة التنفس فيه، بالإضافة إلى أن في المخرج الصوتي للفظتين "كهف"و "جرف"تشابهًا.
ويقول الشاعر:
"قبس من نور قلبي مشرق في ناظريك" (73).
هذا القبس يذكرنا بقوله تعالى: "أنظُرونا نَقْتَبِسُ من نورِكُم" (74).
فبينما يتحدث القرآن على لسان المنافقين وهم يخاطبون المؤمنين ،  فإن الشاعر يورد هذا في معرض الغزل فقبس النور من قلبه يشرق في عينيها.
ويقول الشاعر:
"بجرتها من دافق الماء سلسل" (75).
ودافق الماء إضافة لفظية وقلب لقوله تعالى:
"مِنْ ماءٍ دافِق" (76).
فالشاعر تحدث عن الماء المتدفق ،  بينما كان الماء في القرآن مجازًا.
ويقول الشاعر:
"ألا وقرت آذان من يسمعونه" (77).
ووقر الآذان تعبير قرآني: "وفي آذانهم وَقْرًا" (78).
فالشاعر صاغ جملته بأسلوب إنشائي دعائي يعبر فيها عن انفعاله ، بينما هي في القرآن جملة خبرية.
وتفجير العيون وارد في القرآن بصيغة خبرية:
"وفَجَّرْنا فيها مِنَ العُيون" (79).
"وفَجَّرْنا الأَرْضَ عُيونـًا فالتَقَى الماءُ" (80) ؛فالشاعر يصوغ بعض كلماتها بأسلوب إنشائي استفهامي: (81)
"فمن يفجر الماء منها عيونا لتُبنى قرانا عليها".
ويقول السياب بأسلوب التمني الذي يعبر عن تشفّيه : :
"لو تستطيع الكلام
لصبت على الظالمين
حميمًا من اللعنات" (82).
فنلحظ أن بعض كلماتها توحي لنا بالآية: "قُطّعَتْ لَهُم ثِيابٌ من نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقَ رؤوسِهم الحَميم" (83) ؛
وهذه الصورة أيضا نجدها عند الشاعر في قوله:
"ستنصب نار" (84)، كما أن قول الشاعر:
"ولا تلظّى بناره" (85) يذكرنا بقوله تعالى:
"فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظى" (86).
وتعبير "العيون الحور"عند الشاعر مأخوذ من قوله تعالى : "حُورٌ عين" (87).
فالعيون "الحور"و "الشراب"من كلمات القرآن المترددة في وصف الجنة والشاعر يقول:
"العيون الحور لو أصبحن ظلاً في شراييني" (88) ،  "من الأعين الحور ينبوعها" (89).
وعندما يقول الشاعر "فينفطر قلب السماء" (90) لا شك انه يستوحي جو الآية "إِذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ" (91)، وكلمة "انفطر"في كل استعمال لها في القرآن ملازم لكلمة "السماء"، لكن الشاعر يمزج بين التعبير القرآني وبين التعبير الدارج "انفطر عليه"، ويقول الشاعر:
"لم تترك الرياح من ثمود
في الواد من أثر" (92).
إشارة إلى قوله تعالى: "وَثَمود الذين جابُوا الصَّخْرَ بالواد" (93) ويذهب تفسير الجلالين إلى أن كلمة "الواد"تعني وادي القرى، وفي "معاجم اللغة"الوادي- منفرج بين جبال إن آكام يكون منفذًا للسيل؛ فالشاعر -كما رأينا - يستعمل كلمة "الواد"بحذف الياء وليس له أي مبرر، ففي القرآن حذفت الياء لأنها في نهاية آية ،  وحفاظًا على الفاصلة القرآنية، بينما هي عند الشاعر حافظت على رسمها القرآني كما هو.
ولنلاحظ كيف يستعمل الشاعر الكلمات القرآنية من أكثر من آية، فالسياب يقول:
"كورت النجوم إلى نداء: قابيل أين أخوك" (94) يجمع الكلمات من أكثر من آية: "إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وإذا النُّجوم انْكَدَرَتْ" (95) ، ثم لم يلبث في معرض حديثه عن اللاجئين أن يخاطب قابيل الوارد ذكره في القرآن (المائدة 31)، كما نلحظ أن كلمة "نداء"وردت في القرآن بمثل الجو الذي وصفه السياب في قصيدته "قافلة الضياع"- يقول تعالى: "وَمَثَلُ الذينَ كَمَثَلِ الذي يَنْعَقُ بما لا يَسْمَعُ إلا دُعاءً ونِداء" (96).
وفي قافلة الضياع يقول الشاعر:
"جمعت السماء آمادها لتصيح
كورت النجوم إلى نداء، قابيل أين أخوك؟" (97).
ويقول السياب: "... ابَّنه في موته والمضغة الصلصال" (98) "والمضغة"و "الصلصال"تتعلقان بخلق الإنسان: "إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ" (99)، "خُلِقَ الإِنسَّانُ مِنْ صَلْصَّالٍ كَالفَخّار" (100).
ويبدو أن الأصداء القرآنية تبقى في نفَس القصيدة، فكلمة "الفخار"التي في الآية الأخيرة يستعملها السياب في مكان آخر من القصيدة التي استشهدنا منها (101).
ويقول الشاعر:
"وانجلى الفجر حاملاً بين كفيه سعيرا
عذابه يصليني" (102).
وفي القرآن : "وَيَصْلَى سَعيرا" (103)، وكلمة "يَصْلَى"تتردد عند الشاعر، وعلى سبيل المثال: "اصلوها نارا" (104)، وهي مطابقة لقوله تعالى : "واصْلَوْها..." (105) والكلمات بتجميعها تدعنا نتذكر آيات مشابهة، ففي قول السياب:
"أنها عادت هشيما يوم أن أمسيت ريحا" (106).
فإن لفظتي "الهشيم "و"الرياح "  تذكراننا بقوله تعالى : "فأصْبَحَ هَشيمًا تَذْرُوه الرِيّاح" (107)؛  فالشاعر يخاطب الصقر الإلهي أن يترفق لأن روحه تتمزق، والله يريد أن يضرب مثلاً على ضعف الإنسان: أن نبات الأرض أصبح قشًا تذروه الرياح ،  وهكذا حال الكافر.
وفي قول السيياب:
"يا للقبور كأن عاليها غدا سفلا
وغار إلى الظلام" (108).
نستوحي قوله تعالى: "فَجَعَلْنا عالِيها سافِلَها" (109)، ومن الملاحظ أن جملة السياب تشبيه يعبر فيه عن رهبة الموقف ، بينما آية القرآن تقرير ووصف حال .
وفي قول السياب:
"مصابيح لم يسرج الزيت فيها وتمسسه النار" (110).
استفادة من القرآن : "يَكادُ زَيْتُها يُضيء ولَوْ لَمْ تَمْسَسَهُ نار" (111).
والشاعر يقول:
"لو أودع الله إياها أمانته
لنالهن على استيداعها ندم" (112).
وهذا مضمون قرآني من الآية: "إِنَّا عَرَضْنا الأمانةَ على السمواتِ والأرْضَ والجِبالَ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها" (113).
فالشاعر استعمل أداة الامتناع -  بمعنى أن الندم سيحصل لو تم ذلك، بينما الآية تتحدث عن رفض الجبال أن تحمل الوديعة.
وترتبط كلمة "التنور"بالفيضان في قوله تعالى:
"حتّى إذا جاءَ أمْرُنا وفَار التّنّور قُلْنا احْمِل فيها مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْن" (114).
وإذا بها عند السياب مرتبطة كذلك:
"في قلبه تنور- النار فيه تطعم الجياع
والماء من جحيمه يفور
طوفانه يطهر الأرض من الشرور" (115).
وكلمة "التنور"لها أكثر من تفسير، لكن الغالب فيها أنه الموقد،وهذا لا يمنع الشاعر من ترديد كلمة "تنور"بالمعنى القروي "موقد"من غير أن يتقيد بالجو القرآني كقوله:
"يا قصة عنتر إذ تروى حول التنور فأحياها" (116).
 
5- ألفاظ قرآنية بارزة:
 
ليس سبيلنا هنا أن نقف عند كل لفظة  قرآنية، وإنما نقف عند بعضها، فكلمات مثل: آد، يدثر، اجتبى، وغيرها كثير نميزها على أنها وردت في القرآن ...وتذكرنا بآيات  قرآنية.
وشاعرنا مولع باللفظة القرآنية كلفظة: "أزف" (117)، يقول الشاعر:
"لقد أزف الوعد" (118)
وكأنما أزف النشور" (119)
وهو يؤثرها  على (جان) و (آن) و (جاء) وإضرابها لان "أزف"تخلق عنده الإحساس بالجزالة اللغوية، وكلمة "الوصيد" (120) تعني العتبة أو فناء الدار، فيقول الشاعر:
"رمت الرداء ونشرته على الوصيد" (121).
واستعمال حرف الجر "على"يقربنا من معنى آخر من معاني الوصيد وهو "نبات متقارب الأصول" (122) وليس هذا
المعنى بدعًا ، فمن العرب من ينشر ملابسه على النبات، غير أن متابعة دقيقة تؤكد لنا أنه عنى  معنى
 "الساحة" (123):
"عباس عاد من الترصد بالرجال على الوصيد"
"وما زال جمعنا في الوصيد" (124).
ويؤثر الشاعر كلمة "الرعاء"اعتبارًا للقافية وللاستعمال القرآني (125)، إذ أن الشاعر يقول:
"ومن كوة في خيام الرعاء" (126).
وفي قول الشاعر:
"ولا اختص في الصرصر اللاجئون" (127).
تسترعي انتباهنا كلمة "صرصر"الواردة في القرآن (128)، وترتبط كلمة "السموم"في شعر السياب بالريح:
"ريحها السموم (129)، رياح سموم" (130).
وتعني "السموم"الريح الحارة، فيقول تعالى: "عَذاب السّموم" (131)، "نار السَّموم" (132).
كما أن الشاعر في استعماله: "بأفنانك الناطفات المياه" (133) يعرف أصلاً أن (أغصان) تؤدي نفس المعنى، لكنه يفضل كلمة "أفنان"القرآنية (134)، وكذلك الأمر في استعمال الشاعر كلمة "الحرور"التي يؤثرها على الحر.
وكم تتردد كلمات من وحي القرآن في شعر الشاعر، ونسوق بعضًا مما ورد في معنى العذاب مثلا : لظى، سعير، سقر، رجوم، وغيرها (135)....
 
 
"استخلاص"
 
من خلال ما تقدم نستخلص ما يلي:
1- أن أثر القرآن بارز في كل المجموعات الشعرية على السواء، وتوفرها كثيرًا  في ديوان "أنشودة المطر"يعود إلى حجم الديوان أولاً .
1- إذا تفحصنا التراكيب التي استفاد منها الشاعر واستعملها كما هي أو طورها فإننا نجد:
أ- أن بعض التركيب وارد في لغة الأدب الحديث ،  كمثل قوله "قبس من نور"، "العيون الحور"الأمر الذي يجعلنا لا نبت في الحكم أنه أفادها مباشرة من القرآن، وهذا ينطبق أيضًا على استعمال المفعول المطلق، حيث أن هذا الأسلوب ليبس واردًا قصرًا على القرآن ،  ولكن لا منأى من وضعها ضمن إطار الاستفادة من القرآن لأنه الأشيع والمتداول .
ب- أن الشاعر في تأثره بالقرآن أسلوبًا ومضمونًا وتراكيب لم يقتبس على الطريقة البلاغية القديمة في الاقتباس – وذلك ،  كأن  ينقل الآية أو جزءًا منها كقول ابن الرومي:
"لقد أنزلت حاجاتي بواد غير ذي زرع" (136).
بل هو يستفيد من القرآن وأساليبه ،  ويطور هذه الاستفادة بعد هضمها باتجاه الآية ،  أو بمعنى مخالف مغاير للأصل.
ج- أن اغلب الاستعمالات التي اشرنا إليها في شعر السياب ترد بمعنى العذاب كقوله:
"وحق العذاب" (137) ، "ستنصب نار" (138).
 
 
ب‌- مدخل إلى استفادة السياب من شعر السابقين :
ت‌-  
لا شك أن كل شاعر في مطلع كتابته يترسم خُـطا سابقيه، والسياب- الذي أشار إليه النقاد بأنه تأثر بأبي تمام والمتنبي وغيرهما- (139) أكثر من استعمال القاموس الشعري القديم، وأعلى صوت الموروث الشعري وأدخله في عشرات الأبنية، فكان من أكثر الشعراء المحدثين اقترابًا من روح الشعر القديم، وكان من أبرز من حوّم حوله رصانته وجزالته (140) ، وهو بهذا أحيا الكثير من الكلمات القديمة، إذ أن استعماله – مثلاً -  صدر بيت قديم:
"ناحت مطوقة بباب الطاق" (ص717)- على سبيل المثال- فإنه يحيي كلمة "مطوقة"، بالإضافة إلى أنه يعمق المعنى، ونحن نحس ألم الشاعر -العراقي- من خلال هذا التضمين ، ومن خلال تذكرنا  البيت القديم:
"ناحت مطوقة بباب الطاق
فجرت سوابق دمعي المهراق"
والشاعر الحديث عندما يضمن شعره فإنه:
- يثري التجربة ويعمق المعنى.
- يحيي بعض الكلمات القديمة.
- يؤكد أهمية التراث اللغوي، وهذا من شأنه – بالتالي -  أن يحفز القارئ على تقبل التراكيب الجديدة (141).
ويلاحظ الدارس أن الشاعر  ساق الشاعر الكثير من هذه الآيات في سياق تشاؤمه وألمه.
وقد حاولنا تصنيف نوعية هذا التأثر، وسجلنا الظاهرة الفريدة كدلالة على الاستفادة، ففي الأسلوب لا نستطيع الحصر مهما أوتينا، وفي التراكيب سجلنا ما تكرر عند الشاعر من غير أن نبحث كيفية وقوع التركيب هنا وهناك إلا ما يقتضي ذلك، فمن التركيب ما بقي على حالة الأول، ومنه ما تغيرت دلالته .
 وقد استعمل السياب التضمين ، وأخذ يرصع به شعره ،  وتناول بعض العبارات الشعرية وطورها توسعًا في المعنى أو اعتراضًا له، وفي الحالتين فإن التأثر واقع، فيه تذكير وإثارة، وفيه قدرة الشاعر على نقل التراث بصورة جديدة.
 
تأثير الشعر القديم على السياب :
 
1- في بناء الجملة.
2- في تراكيب رددها الشاعر وهي لشعراء سابقين.
3- في تضمين أبيات من الشعر القديم في سياق جديد.
4- في تطوير تعابير الشعر القديم بشكل مغاير للأصل.
 
1- التأثر بصياغة الجملة الشعرية القديمة:
لا نستطيع أن نزعم أن باستطاعتنا حصر كل الأساليب التي تأثر بها الشاعر، فربما يكون بعض هذه الأساليب من القرآن أو الحديث، ولكن سبيلنا أن نقف عند بعض الأساليب البارزة في الشعر:
أ- أسلوب  التفريع[1]  أو ما أصطلح عليه أسلوب : "ما...بـ ": وهو الابتداء بما التي تعني ليس، والتي يتأخر خبرها وهو مسبوق بالباء- حرف الجر الزائد-، فالأعشى مثلاً يقول:
"ما روضة من رياض الحزن معشبة  خضراء جاد عليها مسبل هطل
يومًا بأطيب منها نشر رائحة   ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل" (142).
وها هو السياب يستعمل هذا الأسلوب المتوافر في الشعر القديم فيقول:
"فما مذهب من شعور الحسان
تراخى على كتف واستراح
بمشبه منديلها فتنة
وسحرًا إذا جاذبته الرياح" (143).
 
ب- أسلوب الاستفهام في اصطلاح البلاغين "تجاهل  العارف": والمقصود منه تهويل الموقف، ومن ذلك ما تقول الخنساء :  "قذى بعينك أم بالعين عوّار" (144) .
ويقول السياب: "أنار البرق في عينيه أم شعار المعبد" (145).
ج- استعمال "ما الزائدة"بعد إذا: يقول النابغة: "إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم" (146).
والسياب يكثر من مثلها كقوله:
"إذا ما راح يطوي إليهم نحو الشاطئ الخصب
إذا ما اهتزت الزهرة ألقت بالندى العذب" (147).
د- استعمال المدح بما يشبه الذم: يقول السياب:-
"فتى ما جنى ذنبًا سوى أنه انتضى      حسامًا بوجه الظلم ما لان جانبه" (148).
وصيغة هذا القول تذكرنا ببيت النابغة:
"ولا عيب فيهم غير أن سيوفيهم          بهن فلول من قراع الكتائب" (149) .
ه- استعمال أنماط صياغة قديمة:
 ففي قول المتنبي: "لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي" (150)، نجد أن قول السياب:
"لغيرك لم يخفق فؤادي ولا هفا" (151) ، مشابهًا له ،  إذ أن البيتين يبدأان بحرف جر ،  فاسم مضاف إلى الضمير،  فحرف نفي ،  ففعل ،  فحرف عطف ،  فحرف نفي ،  ففعل.
ونظرة إلى مطولة "بور سعيد" (152) في قصائدها العمودية الثلاث، فإننا نستوحي الأجواء الشعرية لجرير وأبى تمام والمتنبي في كل قصيدة على التوالي، ولنضرب مثلاً:
يقول السياب: "إيماضة البرق إلا أنها حقب" (153).
ويقول المتنبي: "هذا عتابك إلا أنه مقة" (154)، وغيره كثير.
ولو أنعمنا النظر في أبيات السياب التي دللنا على تأثرها لألفينا أكثرها من مجموعة "البواكير"،  غير أن هذا لا يعني أن السياب لم تتأثر صياغته في سائر الدواوين، ففي "أنشودة المطر"مثلاً يقول:
"عصافير أم صبية تمرح
أم الماء من صخرة تنضح" (155) .وفي تكرار "أم"نتذكر قول الخنساء:
"قذى بعينيك   أم بالعين  عوار
أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار" (156) .
2- تراكيب من الشعر القديم رددها السياب:
وإفادة السياب من الشعراء السابقين تبرز كذلك في تضمين بعض التراكيب كما هي، فالدعاء بالسقي مثلاً كان يلائم طبيعة الصحراء، وقد أكثر منه الشعراء ، فهذا قيس بن ذريح يقول:
"سقى دار لبنى حيث حلت وخيمت من الأرض منهل الغمام رعود" (157) .
ويقول ابن زيدون مستعملاً نفس الدعاء- برغم اختلاف البيئة عليه:-
"ليسق عهدكم عهد السرور" (158) .
وكما كان الشاعر القديم يدعو بالسقي على الأطلال ،  فها هو شاعرنا يستوحي السقي على منزل الأقنان:
"ألا يا منزل الأقنان  سقتك الحيا سحب" (159) .
ودعاء السقي في الشعر القديم يأتي كذلك بصورة سلبية كقول المتنبي مستعملاً لا الدعائية:
"فلا سقاها من الوسمي باكره" (160) .
وهذا التركيب نجده- قريبًا من الأصل- عند السياب في قوله: "فلا سقيا" (161) .
فالتراكيب القديمة التي استخدمها السياب كثيرة ، وها نحن نذكر ما استطعنا حصره ابتداء من الشعر الجاهلي:
فـ "رعي النجوم "  تعبير وارد في شعر النابغة: "وليس الذي يرعى النجوم بآئب" (162) ومعنى رعي النجوم مراقبتها ،  وها هو السياب يقول كذلك : "وأرعى نجوم الظلام العميق" (163) .
ويقول الشاعر القديم:
"نذر علي لئن راحوا وإن رجعوا
لأزرعن طريق الطف ريحانا" (164) .
فيأتي السياب ويقول:
"نذر علي لئن تشب
لأزرعن من الورود" (165)
كما أن ترديد السياب لـ (حُييت من...) في قصيدة "بور سعيد" (166) تذكرنا بعنترة في ابتدائه:
"حييت من طلل تقادم عهده" (167) .
وطول الثواء تعبير عند الأقدمين، وفيه يقول عنترة:
"طال الثواء على رسوم المنزل" (168) .
ويقول الحارث بن حلزة:
"رب ثاو يمل منه الثواء" (169)، فيأتي السياب ويمزج بين المعنيين:
"حتى ضجرت واسأمه طول الثواء وآده التعب" (170).
 ومن الطبيعي أن السياب كان يستطيع استعمال "المقام"بدلاً من "الثواء"مع محافظته على الوزن - لكن الشعر الجاهلي بقي تأثيره طاغيًا.
"والبنان الرخص"وارد في الشعر القديم، يقول النابغة:
"بمخضّب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد" (171) .
ويقول عمر ابن ربيعة:
"ومخضب رخص البنان كأنه عنم" (172).
وإذا ترددت كلمة "عنم"عند الشاعرين فإن السياب أغفلها لتوغلها في البعد عن الطبيعة الحضرية، فهو يقول "جاءتك ظمأى بالبنان الرخص تغترف المياه" (173).
ومن قول السياب:
"ماء اسق يا ماء والغيث الرهيب كلى
مفرية سحت الآجال والكربا" (174).
نرى أن "الكلى المفرية"تعبير وارد عند ذي الرُّمة:
"ما بال عينيك منها الماء ينسكب كأنه من كلى مفرية سرب" (175).
ومن الشعر العباسي استعار السياب الكثير من مثل هذه التركيبات كما هي:
يقول أبو تمام في بائيته المشهورة:
"كأس الكرى ورضاب الخرد العرب" (176).
ويقول السياب: "والنار أعراض كل الخرد العرب" (177).
يقول أبو تمام: "قاني الذوائب من آني دم سرب" (178).
ويقول السياب: "حتى جبى قدر ماء من دم سرب" (179).
ويقول أبو تمام: "للنار يومًا ذليل الصخر والخشب" (180).
ويقول السياب: "ما ذل غير الصفا للنار والخشب" (181).
والبحتري يقول: "أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا" (182)، فيستعمل السياب نفس التعبير "والربيع الطلق" (183)، وكذلك فإن البحتري يقول: "يفتقها برد الندى.." (184) فيستعمل السياب: "كما تنفض الريح برد الندى" (185).
ويقول ابن الرومي:
"طواه الردى عني فأضحى مزاره بعيدًا على قرب قريبًا على بعد" (186).
فيأتي السياب مستعملاً الطباق كذلك بالإضافة إلى استعماله نفس التركيب "طواه الردى"، (البواكير 220).
طواه الردى فالكون للمجد مأتم
مشارقه مسودة ومغاربه....
ويقول المتنبي: "ويلمها خطة ويلم قابلـها" (187).
"ويلم"كلمة تقال للتعجب، وأصلها :  وي لأمها، ثم حذفت الهمزة، واللام تكسر على الأصل، وتضم على حذف حركتها، والقاء حركة الهمزة عليها، تقول العرب: "ويلمه مسعر العرب"، فيستعمل السياب هذا التعبير متعجبًا:
"ويلم سازاك كيف اندك حائطه
حتى تعري لي السهل الذي حجبا" 0188).
فهو يستعمل نفس التركيب القديم ، ويعجب لمصير مستشفى الصليب الأحمر حيث يعمل الطبيب "سازاكي"، وفي قرن الكلمة الأجنبية بكلمة "ويلم"  - إثارة وجدّة.
ومن تعابير المتنبي "وَيْكَ"وهي كلمة تعجب أيضًا مركبة من  ( و ي )  وكاف الخطاب، يقول المتنبي:
"كفى اراني- ويك- لومك ألوما" (189) .
والسياب كذلك يستعملها اعتراضًا: "انثرني- ويك- أباديدا" (190) .
 والمتنبي يستعمل "لك الله"بمعنى الدعاء كقوله: "لك الله من مفجوعة بحبيبها" (191).
فيستعمل السياب بداية تطابق بداية المتنبي: "لك لله كيف اقتحمت القرون" (192).
كما أن استعمال "حببتك"عند المتنبي: "حببتك قلبي  قبل حبك من نأى" (193)، يرد عند السياب: "أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه" (194) .
كما أن تركيب "الشرف الرفيع"عند المتنبي (195) وارد هو الآخر عن السياب (196).
ويقول صفي الدين الحلي:
"والغصن قد كسي الغلائل بعدما أخذت يدا كانون في تجريده" (197) .
فهو يجعل للشهر يدين- مجازًا- فيقول السياب:
"فكأن نايـًا ضمخته يدا آذار ليلة العرس" (198).
وكذلك نحس أن بعض التضمينات ترد لإشاعة الحنين -المستمد من الشعر القديم- كاستعماله "يا حادي العيس" (199) و "نعمت الدار" (200)، وهما مثلان من عدة يستفيد منهما الشاعر لتجسيم ألـمه.
3- في تضمين أبيات أو أجزاء من أبيات في سياق جديد:
فالسياب يضمن في قصيدة "ليلى" (201) أربعة أبيات متفرقة قيلت على لسان قيس:
"ليلى مناد دعا ليلى فخف له نشوان في جنبات الصدر عربيد
كسا النداء اسمها سحرًا وحببه حتى كأن اسمها البشرى أو العيد
هل المنادون أهلوها وإخوتها أم المنادون   عشاق  معاميـد
إن يشركوني في ليلى فلا رجعت جبال نجد لهم صوتًا ولا البيد" (202).
وشاعرنا إذ يستوحي الجو القديم وقد قدم له بقوله:
"ما كان أحلى حبنا العربي حب كثير وجنون قيس"فإنه يتابع غزليته على طبيعته الخاصة البعيدة عن الروح القديمة:
"وأظل طول الليل أحلم بالزنابق والعبير
وحفيف ثوبك والهدير
يعلو فيغرق ألف زنبقة وثوب من حرير"
- وعندما يقول السياب:
"بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ويبقى اليتامى بعدنا والمصانع" (203).
فهو قد لجأ إلى بيت لبيد بن ربيعة:
"بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانع" (204).
فالسياب يستعمل المصدر الذي استعمله لبيد، ولكنه في عجز البيت استبدل كلمة بكلمة (كلمة الجبال بكلمة اليتامى)، أما سبب ذلك فهو أن المعنى الذي يرمي إليه السياب من كلمة "المصانع"هو معنى مستحدث يدل على مكان الصناعة والعمل، بينما كان مقصود لبيد من كلمة المصانع: ما يجمع فيه ماء المطر كالحوض (القرى، الحصون)، فالجبال تتلاءم والمصانع في مفهوم لبيد....وبما أن كلمة المصانع لها دلالة جديدة في عصرنا لذا فقد كان حتميًا أن يستبدل السياب كلمة الجبال بكلمة أخرى موافقة، فجاء بكلمة اليتامى ليدلل على مصير أولاد العمال من اثر مصانع الأسلحة.
- ويقول السياب:
"والذي حارت البرية فيه بالتأويل كائن ذو نقود" (205).
وهو يذكرنا بقول المعري:
"والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد" (206).
فالمعري أراد بالحيوان المستحدث من جماد آدم، وهو يرمز إلى الإنسان عامة، واستعمال السياب نفس الكلمات تقريبًا يذكرنا بالبيت القديم ،  ويعرفنا أن الإنسان كائن ذو نقود، وهو توجه جديد لتأويل معنى الإنسان.
ويقول السياب:
"عيون المها بين الرصافة والجسر
ثقوب رصاص رقشت صفحة البدر" (207).
وهذا البيت استعادة لبيت علي بن الجهم:
"عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري" (208).
فالصدر في البيتين لم يتغير، أما العجز فقد لجأ فيه الشاعر إلى معنى جديد مستعملاً التورية في كلمة "بدر"، ويرى البروفيسور موريه أن هذا الاستعمال جاء ليخلق أسلوبًا ساخرًا على ضوء الحوادث التي لقي فيها بعض الطلبة حتفهم وذلك في فترة الملكية (209).
-ويقول السياب على لسان أمه التي تخاطبه:
"جوعان؟ أتأكل زادي" (210).
فهي تسأله هل أنت جوعان، وتعرض عليه أن يأكل من زادها، وهذا التساؤل يذكرنا بقول المتنبي:
"جوعان يأكل من زادي ويمسكني" (211).
فقد وصف المتنبي كافور أنه جوعان للؤمه، وقوله: "يأكل من زادي"فيه صورة هجائية قلبها السياب بفنية، وجعل الصيغة استفهامية ليدل بذلك على تحنن ألأم وعطفها.
4- في تطوير تعابير الشعر القديم بنفس الاتجاه:
كثيرًا ما نقع على كلمات في شعر السياب توحي لنا بتأثره واستفادته من الشعر القديم، وقد أجرى الشاعر بعض التغيير على الأصل، لكن الروح القديمة والمعنى القديم بقيا ظاهرين.
يقول السياب:
"الليل طال، وما نهاري حين يقبل بالقصير" (212).
ويقول في مكان آخر:
"تبرمت يا ليل بالبائسين
فزل واترك الصبح يأسو الجراح" (213).
وفي قوليه يذكرنا بامرئ القيس عندما طال عليه الليل وقال:
"ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل" (214).
فامرؤ القيس يتبرم من الليل ويطلب منه أن يزول، وعنده أن الصباح ليس بأفضل من الليل، فالهموم تفترسه ليل نهار. وفي قول السياب الأول يذكرنا بتساوي النهار والليل في الطول أي في الهم، بينما في قوله الثاني يتبرم بالبائسين ويطلب منه أن ينجلي ويزول، فالصباح سيأسو الجراح ويريحه كما أراح النابغة (215).
وهو في مكان آخر يقول:
"هذا هو اليوم الأخير
فليته دون انتهاء
ليت الكواكب لا تسير" (216).
ولولا التمني عند الشاعر لكان شبيهًا قوله بقول النابغة في وصف الليل:
"تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآئب" (217).
أو شبيهًا بثباته في قول امرئ القيس:
"كأن الثريا علقت بمصامها" (218).
لكن قول السياب فيه تـمنٍّ ومشحون بحساسية اليوم الأخير للقاء، فيتمنى أن يبقى ثابتًا لا يريم.
ومن الأجواء  الصحراوية القديمة يستمد السياب معانيه ويقول:
"وهل بكيت إن تضعضع البناء
واقفز الفناء أم بكيت ساكنيه" (219).
ألا نتذكر بهذا الشعر الوقوف على الأطلال والبكاء بين يديها، فهو يقف على بيت جده القديم، وبدلاً من يستعمل "عفا"و "أطلال"يقول بلغة جديدة الشكل : "تضعضع البناء".
وفي مكان آخر يستعمل البكاء بالمفهوم القديم:
"وفي يافا رآه القوم يبكي في بقايا دار" (220).
فالبكاء والوقوف والطلب إلى الأصحاب أن يقفوا ويبكوا من مظاهر القصيدة التقليدية القديمة، فيأتي السياب ويقدمها بصورة واقعية معاصرة:
"شاهدة بين القبور تبكي
تستوقف العابر يا صحابي
غضوا الخطا ولتصمتوا" (221).
وطلب السياب "ولتصمتوا"إيحاء (جميل) لدعوة البكاء القديمة.
ومن طبيعة الحياة الصحرواية تناوح الرياح على الخيمة، فمن قائل: "تسفي بجانبه الرياح"و "تعوي الرياح بجانبه"أو كقول المنخل اليشكري:
"وإذا الرياح تناوحت بجوانب البيت الكبير" (222).
فإذا بهذا المعنى يتردد في شعر السياب:
"كالمنزل المهجور تعوي في جوانبه الرياح" (223).
"على مرفأ ناوحته الرياح" (224).
-ومن معاني الشعر الجاهلي قول حنظلة الطائي:
"أرى قمر الليل المعذب كالفتى
 كذلك زيد الأمر ثم انتقاصه-
وتكراره في دهره بعد ما مضى" (225).
فيقول السياب مكررًا المعنى ومغيرًا الألفاظ:
"عالم يحيا على الأقمار تولد ثم تكمل ثم تندثر" (226).
فحياة الإنسان كدورة القمر، وشاعرنا كأنه يلخص بيتي حنظلة - ويقول السياب:
"سلام جال فيه الدمع والآهات والوجد
على المتبدلات لحودهم والغاديات قبورهم طرقًا" (227).
وكان زهير بن أبى سلمى قد سبقه إلى القول:
"قد جعل المبتغون الخي


Viewing all articles
Browse latest Browse all 578

Trending Articles