Quantcast
Channel: متــــرجـــــم عـــربی - دکتر مهدي شاهرخ
Viewing all articles
Browse latest Browse all 578

راسـة في مـفهـوم الـمـطـر في شـعـر الـســياب

$
0
0
دراسـة في مـفهـوم الـمـطـر في شـعـر الـســياب



دراســـة
د / ضـيـــاء الـصـدّيـقـــي


E-mail:dhia50@yahoo.com    



( تـرنـيـمـة الـمـطــر )


تـمـهـيـد
 
      في الرابع والعشرين من كانون الأول ( ديسمبر ) من عام 1964 ، والعالم يحتفل بميلاد رسول السلام السيد المسيح ، رحل عن الساحة الأدبية العربية ( الشعرية ) أحد أبرز أعلامها، الرائد - المدرسة بدر شاكر السياب . فقبل اثنين وأربعين عاماً رحل السياب وهو بعد في أوج شبابه وتألقه ، ورغم عمره الزمني القصير ( مات عن ثمان وثلاثين سنة ) ، لكنه ترك نتاجاً شعرياً ثرياً . رحل بعد أن أرسى دعائم حركة تجديدية في الشعر العربي ، هي حركة الشعر الحديث ( شعر التفعيلة ) ، تاركاً فيها بصماته الواضحة التي سرى تأثيرها على أجيال من الشعراء ممن عاصروه أو ممن جاءوا بعده . وسواء انطلقت هذه الحركة من العراق أو من غيره ، وسواء كان السياب هو أول من كتب القصيدة الحديثة أو غيره ، إلا أنه يـُعد الرائد الحقيقي لهذه الحركة لما قدمه من تجديد في القصيدة العربية شكلاً ومضموناً .
     وإذا اعتادت الأمم أن تعيد ذكرى نوابغها بإقامة المهرجانات الثقافية ، وعقد الندوات ، وإلقاء المحاضرات ، ونشر البحوث التي تسهم في إلقاء الضوء على حياتهم وإنتاجهم ، فالسياب كأحد أبرز الشعراء العرب النوابغ ، ليس شاعراً عادياً يمر عليه الدارسون مرور الكرام ، إنه ظاهرة أدبية مهمة ، بها عبر الشعر العربي إلى مرحلة جديدة في تاريخ تطوره ، ومعها جاس آفاقاً فكرية جديدة ، وأنماطاً متنوعة من التعبير ، وهو بعد ذلك مدرسة شعرية مهمة في حركة الشعر العربي تخرج فيها كبار الشعراء اليوم ، بل حتى في شعر الشعراء الشباب اليوم نجد نفساً سيابياً ( ظاهراً أو مستتراً ) ، فلا أقل -  في ذكرى رحيله -  من أن نتجول بين قصائده ، ونلقي شيئاً من الضوء على نتاجه الشعري المتعدد الجوانب .
     في هذه الدراسة سنحاول أن نتلمس مفهوم المطر في شعر السياب ، فلطالما غنـَى السياب كثيراً للمطر ، غنـَاه بكل براءة الطفولة ، وبكل رومانسية المراهقين ، وبكل معاناة الملتزمين، وبكل احتضار الراحلين ، حتى باتت مناجاته للمطر ترنيمة ً يرددها في كل شعره ،أو أنشودة ً يعزفها في كل قصائده . ولا عجب أن سمَـى السياب أحد أهم دواوينه ( أنشودة المطر ) ، ذلك المطر الوديع – القاسي ، الجميل – المتوحش ، القوي – الضعيف ، المـُحي – المـُميت ، النقي – المدنس ، الخير – المدمر . غير أن المطر لم ينس شاعره المـُحب ، فكان مع القلائل الذين ودعوا الشاعر عند حافة القبر يبكي مـُغنيه ( كان المطر يهطل – رذاذاً –  حين  دُفن الشاعر ) ، وفي سنة 1971 حين تجمع أدباء وشعراء الوطن العربي في البصرة في مهرجان تخليدي ، واحتشدوا في مدخل شارع الكورنيش المطل على شط العرب ليزيحوا الستار عن تمثال السياب ، أبى المطر إلا أن يشاركهم احتفالهم ( كان المطر يهطل في تلك اللحظة أيضاً) .
     والسياب ذلك القروي القادم من أعماق الريف البصري قد عشق الطبيعة عشقه للحياة ، وعشقه للأرض . عشق السياب جيكوره ؛ تلك القرية الوادعة على ضفاف شط العرب الخالد ، عشق ناسها ، تربتها الخصبة ، خضرتها الممتدة، نخيلها الباسقات، نهرها الصغير( بويب) . ويكبر السياب ، وينضج الوعي ، فتكبر جيكور لتكون العراق وفلسطين وبور سعيد والجزائر. ويتسع نـُهيرها الصغير ( بويب ) ليصير دجلة والفرات والنيل وبردى . وتتعمق الدائرة أكثر ليكون الإنسان هو الهم الأول والأخير ، هو قابيل الجاني ومسيح السلام ، هو حفار القبور والمومس العمياء المضطهدَين ، هو سندباد الغربة والضياع ، وهو أيوب الصابر . وهو بعد ذلك أو قبل ذلك الإنسان الذي ينتظر المطر ليطهره ، ليخصب الأرض ويوزع الخيرات ، ليمحق الاضطهاد ، ويعيد الغريب ، ثم ليجود على أيوب بالراحة الأبدية .
 تلك رحلة السياب في الحياة .


                               *                          *                        *


     يلعب المطر دوراً أساسياً في شعر السياب ، ويكاد يكون المحرك الرئيس في تجربته الشعرية ، على أنه يحمل إيحاءاتٍ ورموزاً متعددة تتشكل وفق مراحل تطور السياب الشعري. وقد أجمع النقاد على تقسيم تجربة السياب الشعرية إلى ثلاث مراحل ، هي على التوالي :  مرحلة  البديات ( الرومانسية ) وتتمثل في ديواني البواكير، وأساطير وأزهار ذابلة .
 ثم مرحلة الانتماء السياسي ( اليساري ) والاجتماعي والقومي وتسمى المرحلة التموزية  ، وهي أنضج المراحل وأطولها ، وتتمثل في ديواني أنشودة المطر ، والمعبد الغريق .
وأخيراً مرحلة المرض والموت وتتمثل في ديواني شناشيل ابنة الجلبي ، ومنزل الأقنان . ويتخذ المطر في كل مرحلة من المراحل الثلاث معان ٍ ودلالات ٍ متنوعة ، ومتناقضة أيضاً  تعمق الفكرة ، وتزيد التعبير قوة وجمالاً ، وتجسـّد انفعالات الشاعر حتى ليستقبلها المتلقي بنفس الإحساس .


أولاً : مرحلة البدايات 


     بدأ السياب في الأربعينات -  كغيره -  شاعراً رومانسيا ً حالماً ، يخلق معشوقاً خيالياً ، يجلسه على الشط بين غابات النخيل والمروج الخضراء ، يناغيه مرة ويعاتبه مرة ، يثور عليه حيناً ويبكيه أحياناً ، ساعات من السعادة وأخرى من العذاب ، فرح اللقاء وألم الفراق ، حلم المراهقة تنظم النجوم والأقمار والنهار والغابات قلائد تـُهدى لحبيب الروح .
     ولعل هناك جملة عوامل خارجية وداخلية دفعت السياب الشاب للتحليق في الأجواء الرومانسية . فمن العوامل الخارجية :
• إن الجو الشعري لتلك الفترة كان يفوح بنكهة الرومانسية المتأثرة بالرومانسية
   الإنجليزية والفرنسة على يد شعراء مدرسة ( أبولو ) ، وكان أكثر الشعراء الشباب
   في الأربعينات يقتفون أثر علي محمود طه وإبراهيم ناجي وألياس أبو شبكة
   والشابي وغيرهم . والسياب هو أحد المتأثرين برومانسية شعراء ( أبولو ) ، ولا
   أدل على ذلك أنه بعث بمطولته ( بين  الروح والجسد ) إلى الشاعر علي محمود طه
   ( غير أن معظم أبيات المطولة قد ضاعت ).
•    هذا إضافة إلى اطلاعه على الأدب الأوربي من خلال قراءاته الذاتية ودراسته الجامعية للغة والأدب الإنجليزي، فقرأ لكبار الشعراء الرومانسيين الأوربيين مثل اللورد بايرون وشللي وكيتس ووردزورث ( نبي الطبيعة ) كما يلقبه أحد النقاد الإنجليز ، والذي أعجب السياب به كثيراً حتى أهداه أكثر من قصيدة ، بل إنه ترجم له ولبعض الرومانسيين الإنجليز ، وبعض الفرنسيين كهيجو ولامرتين وغيرهم .
  ومن العوامل الداخلية – الذاتية :
• الفقر العاطفي في حياة السياب منذ طفولته ، فقد توفيت والدته وهو في السادسة من
   عمره ، وما لبث والده أن تزوج بأخرى وابتعد عن أولاده :
                أبي منه قد جردتـني الـنسـاء         وأمي طواها الردى المعجلُ
                وما لي من الدهر إلا رضـاك ِ         فرحـمـاك ِ فـالدهرُ لا يعـدلُ
                                                                              ( خيالك : ديوان بواكير، ص 149 )
     فنشأ يبحث عن الحنان والحب ، ولما كانت بيئته الريفية بيئة محافظة، وشكله غير
     الوسيم ، لم يعرف السياب الحب المتبادل مع الجنس الآخر ، فاستعاض عنه
     بحبيبات من صنع الخيال . كتب مرة إلى صديقه الشاعر خالد الشواف يقول له :
     ( أأنت مثلي لا تعرف فتاة بعينها ؟ أأنت مثلي محروم من العاطفة ، لا يرى قلباً
      يخفق بحبه ؟ . . . مرت السنون وأنا أهفو إلى الحب ، ولكني لم أنل منه شيئاً ولم
      أعرفه ) . ( من مقدمة المجلد الثاني للمجموعة الكاملة، ص 39 )                                                          
      ثم عرف الحب ؛ الحب الأحادي الجانب في علاقاته مع طالبات  الكلية وكان حظه
     الفشل ، فقال يخاطب زوجته :
 
                          وما من عادتي نكرانُ ماضيِّ الذي كانا ،
                       ولكن . . كلُّ من أحببتُ قبلكِ ما أحبوني
                    و لا عطفوا عليّ ....   ( أحبيني : شناشيل أبنة الجلبي ، ص639 )


• إضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي للوطن العربي قبيل الحرب العالمية الثانية وبـُعيدها ، ثم الحرب نفسها وما تركته في النفوس من قلق وألم ولوعة .
 
 وبعد . . .  أين يكمن المطر في بدايات شعر السياب ؟


     لا شك أن مجاميعه الشعرية الأولى تسيطر عليها الأجواء الرومانسية ، وتتضخم المعاناة الفردية لتطغي على الهموم العامة ، ويأتي المطر -  كعنصر من أهم عناصر الطبيعة عند الرومانسيين -  مأوى يلجأ إليه العاشق المعذب من صدود حبيبته ليطفىء به شوقه وحنينه ، ويروي قلبه الصديان  .  إن الحب و المرأة و الطبيعة موضوعات  أثيرة لدى الشعراء الرومانسيين ،
     فالحبيبة الجافية التي ارتشف السياب العاشق من مقلتيها النجوم وعانق آماله الآيبة ، هي انشودة المنى ، أغنية الليالي الربيعية ، أناشيد من صداها يغفو الضياء على الزورق المنتظر . أجواء رومانسية تلعب الطبيعة دوراً في تشكيلها : النجوم وضياء القمر ، وليالي الربيع ، والزورق المنتظر ، والأزهار الحالمة بالمطر ، والعاشق الحالم باللقاء . الأزهار تنتظر أن يوهبها  المطر الحياة ، والعاشق ينتظر أن توهبه الحبيبة الحياة أيضا ( وربما تأثير علي محمود طه واضح في مثل هذه الصور):


أأنـتِ الـتي رددتهــا مـنـاي          أناشـيـدَ تحت ضيــاء القمرْ
تـُغــني بـهـا لـيالي الـربيــع         فـتحـلِـمُ أزهــارُه بالـمـطـــر
ويمضي صداها يهزّ الضياء        ويغفو على الزورق المنتظر
                                                     ( هوى واحد : ديوان أزهار وأساطير ، ص 49 )


  وتزداد الصورة قتامة حين يقع الافتراق في الليل ، والليل يوقظ كل عذابات العاشقين  وماذا بعد الفراق سوى الألم والضياع ، ويأتي المطر في تلك الليل المظلمة ليعمق الشعور بالعزلة ويزيد الإحساس بالضياع (1):
كالشاطىء المهجور قلبي ، لا وميضَ ولا شراع
                 في لـيلـة ظـلـمـاءَ بـلّ فـضاءَها الـمطـرُ الثقيل –
لا صرخة َ اللقيـا  تطيف بـه ولا صمـتَ الـرحـيـل
يمناكِ والنورُ الضئيل . . . أكان ذاك هو الوداع ؟
بابٌ ، وظلُ يدين تـفـتـرقان –  ثم هوى الـستـار
                                                        ( ستار : ديوان أزهار وأساطير ، ص 75 )      
              بل يذهب السياب أبعد من ذلك حين يرى أن المطر لا يخفف معاناة المحب ، وأن السماء لاتسق العاشق المعنـّى إلا العطش (وهي فكرة رومانسية أخرى)، ففي قصيدة ( هل كان حباً؟) من ديوان ( أزهار وأساطير ) وهي أول قصيدة يكتبها السياب من الشعر الحديث ( شعر التفعيلة ) ، يقول :
 
هل تـُسمّـين الذي ألقى هياما ؟
أم جنوناً بالأماني ؟ أم غراما؟
ما يكون الحبُ نوحا وابتساما؟
                              أم خفوقَ الأضلع الحرّى ، إذا حان التلاقي
                              بين عينيهـا ، فأطرقـت ، فـراراً  باشـتياقي
                              عن سماء ليس تسقيني إذا ما
                              جئتـُها مستسقياً ، إلا أواما.
                                                            ( هل كان حباً: أزهار وأساطير، ص 101 )   
وهكذا كان المطر ( الطبيعة الرومانسية ) هو الذي عرفه السياب في بدايات تجربته الشعرية .
                     
ثانياً : مرحلة الالتزام ( المرحلة التموزية )
 
     وينتقل السياب إلى بغداد طالباً في دار المعلمين العالية ، وينتظم بقسم اللغة الإنجليزية . إنها بغداد منتصف الأربعينات – وليست جيكور – تحبل بكل الصراعات السياسية والحزبية والفكرية والاجتماعية . وفي بغداد يتعرف السياب على مجموعة من الشباب العربي المثقف داخل دار المعلمين وخارجها . ويصبح عضواً بارزاً في الدار ، يساهم بقصائده في الاحتفالات والمهرجانات الطلابية ، ويشارك الشعب مظاهراته ، ويكتب في الصحف العراقية ، فأحسّ بالواقع المرير . لم تعد القضية قضية حبيبة تـُعذب حبيبها بالهجران ، صارت القضية أكبر : الاستعمار البريطاني ، الحكومات العميلة ، الوضع الاقتصادي المتردي لغالبية الشعب ، الفوارق الطبقية ، المأساة العالمية بعد الحرب ، معاناة الشعب الفلسطيني ، المقاومة الجزائرية ، العدوان الثلاثي . وبدأ احتضان الواقع بإدراك كبير ووعي ملتزم سياسياً واجتماعياً ، فراح يغني للثورة .
     المطر في قصائده الملتزمة يحمل معان ودلالات متنوعة ، وشحنات إيحائية شديدة الدقة ، ورموزاً متنوعة ،  بل وتبدو متناقضة تتعانق مع الأسطورة . للمطر صور متعددة ، فهو الذي ينشر الخير والخصب ، وهو الذي يعمق الشعور بالمأساة الذاتية والاجتماعية ، وهو دلالة الارتباط بالأرض والناس ، وهو الدمار والخراب ، وهو الأمل – الأسطورة ، وهو بعد ذلك الثورة الحقيقية .
     المطر عند القروي هو الخير والخصب ، هو الحياة ، وربما إحساس القروي بالمطر أكثر عمقا منه عند المدني . في قصيدة ( أنشودة المطر ) وهي من أكثر قصائد السياب غنىًً ، فاطلقها  عنواناً على مجموعته الشعرية ( ديوان أنشودة المطر )
الذي ضم أكثر قصائده التزاماً، إضافة إلى مطولاته الثلاث ( المومس العمياء، حفار
القبور،الأسلحة والأطفال ).
 ( الصور المتنوعة للمطر )
    ديوان أنشودة المطر


أولاً : قصيدة ( أنـشـودة الـمـطـر )
 ( أنشودة المطر) نظمها الشاعر من وحي أيام الضياع في الكويت – كما يقول السياب
    نفسه-  حين   فـُصل من عمله وراح يبحث عن عمل في الكويت سنة 1954 .
( 1 ) تبدأ القصيدة بمقدمة حزينة تتشكل من صور تعكس حنين الشاعر في الغربة 
       لوطنه : (  نأي القمر ، المجداف الواهن  ، الضباب والأسى الشفيف، ارتعاشة
       الخريف ، رعشة البكاء )  بل أن المفردات المعبرة عن الحزن والأسى تشيع
       في كل مقاطع القصيدة ( النشيج ، الجوع ، الردى ، الدم ، الموتى  . . . الخ ) .
( 2 ) ثم يأتي المطر ليعمق الإحساس بالحزن من جهة، وليعطي إيقاعاً في تكرار لفظة 
    ( مطر) عشرين مرة في القصيدة تتساوق مع هطول المطر،إنها فعلا أنشودة المطر 


                           عيناكِ غابتا نخيل ٍساعة َ السحر
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورقُ الكروم
                            وتـَرقصُ الأضواءُ . .  كالأقمار في نهر
                            يرجّه المجدافُ وهناً ساعة َ السحر


( 3 )  ويثير هطول المطر في نفسه وهو في الغربة كل الذكريات ، فتتفجر شحنات
        الشوق والحنين للقرية ، للوطن ، لكل جمال الطبيعة العراقية - لا بالمعنى
        الرومانسي للصور الذاتية -  بل تتوحد صور التعبير عن المعاناة الذاتية للشاعر
        مع المعاناة الجماعية للمجتمع أو مع المسحوقين من أفراد المجتمع ، ويكون
        المطر الشاهد على الصور المأساوية التي يرسمها الشاعر ، وهو بعد ذلك الأمل
        القادم . . واهب الحياة :


                        كأن أقواسَ السحابِ تشربُ الغيومْ
                        وقطرة ً فقطرة ً تذوبُ في المطر . . .
                        وكركرَ الأطفالُ في عرائش الكروم ،
ودغدغتْ صمتَ العصافير على الشجر
                        أنشودة ُ المطر . . .
                        مطر . . .
                        مطر . . .
                        مطر . . .


( 4 ) وتبدأ أنشودة المطر بالعزف ؛ أولا ً على أوتار المعاناة الذاتية للشاعر :


                                     كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
                                     بأن أمَه – التي أفاق منذ عام
                                     فلم يجدها ، ثم حين لجّ بالسؤال
                                     قالوا له : "بعد غدٍ تعودْ . . . " 
                                     لابدّ أن تعودْ
                                     وإنْ تهامس الرفاقُ أنـَّها هناكْ
                                     في جانب التل ِ تنامُ نومة َ اللحودْ 
                                     تـَسِّـفُ من ترابها وتشربُ المطر


( 5 ) وهو ( المطر ) بالنسبة للشاعر المغترب كراهية – لا طوعاً – يزيده شعوراً
       بالغربة والضياع والوحدة . يقول بودلير : "عندما تنهمر الأمطار وتهطل هطولاً 
       مستمراً بما يماثل قضبان سجن كبير لا حد له "إنه الحزن الذي يبعثه المطر في
       ذات الشاعر :
                                     أتعلمينَ أيَّ حزن ٍ يبعثُ المطر ؟
                                     وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر ؟
                                     وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع ؟
                                     بلا انتهاء – كالدم ِ المراق ، كالجياع
                                     كالحبِ ، كالأطفالِ ، كالموتى – هو المطر ؟


( 6 ) لكن المعاناة أكبر من كونها شخصية – وإن كانت هي جزء لا ينفصل عن
       المعاناة الجماعية – إ ذ ليس فقط أم الشاعر ( تسف من ترابها وتشرب المطر) ،
       بل كل المسحوقين في بلده يأنـّون من واقع مرير ، فهم  يفنون العمر كداً ولا
       يحصدون سوى الجوع :                        
                                     كأن صياداً حزيناً بات يجمعُ الشباك
                                     ويلعنُ المياهَ والقدر
                                     وينثرُ الغناءَ حين يأفلُ القمر
                                     مطر . . .
                                     مطر . . .


( 7 ) وتكبر الدائرة لتصير عواصف الخليج ومقاوموه بالمجاذيف والقلوع في
        رحلاتهم المضنية بحثا عن اللؤلؤ يئنون منشدين  . . مطر . . . مطر ، ثم لا
        يكون مصيرهم سوى الموت أو الجوع :
                                     أصيح بالخليج : "يا خليج
                                     يا واهبَ اللؤلؤ ِ ، والمحار ِ والردى
                                     فيرجعُ الصدى
                                     كأنه النشيج :
                                     يا خليج
                                     يا واهب المحار والردى . . . "
 
( 8 ) وفي الحالات الثلاث يكون المطر هو الشاهد على المأساة ، رغم أنه هو الخصب
       الذي يجب أن يعم خيره الجميع . فحين تعزف الرعود في السماء ، ويومض
       البرق ، ويهطل المطر المدرار ، يستبشر الناس بالخير ، لكن هذا الخير لا يعم
       الجميع ، فالغربان تأكل كل الغلال ، والغربان هم المنتفعون والسماسرة والإقطاع
       من ذوي السلطة ، المترفون على حساب الملايين الفقيرة :
 
                                     أكاد أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
                                     وأسمعُ القرى تأنُّ . . .
                                     . . .   . . .    . . .
                                     وينثرُ الغلالَ فيه موسمُ الحصادْ
                                     لتشبعَ الغربانُ والجرادْ
                                     وتطحنَ الشوانَ والحجرْ                    
                                     رحىً تدور في الحقول . . . حولها بشر


  ( 9 ) إن صورة الخير والشر صورة قديمة انطبعت في ذهن الشاعر ، المطر الذي
          يحمل الخير ويعشب الأرض ، يقابلها جوع الملايين ، صورة اختزنتها ذاكرة
         الشاعر منذ الطفولة :


                                   ومنذ أن كنا صغاراً ، كانت السماء   
                                   تغيمُ في الشتاء ،
                                   ويهطلُ المطر ،
                                   وكلُ عام -  حين يعشبُ الثرى -  نجوع
                                   ما مرّ عامٌ والعراقُ ليس فيه جوع .


( 10 ) لكن رغم كل تلك الصور المأساوية الحزينة ينهي الشاعر قصيدته بالأمل في
          مجيء الثورة ، رامزاً لها بهطول المطر . ولعل بين المطر والثورة ترابطاً
          وثيقاً ، إذ كلاهما يحملان عنصر الخير والحياة :


                                   في كلِّ قطرةٍ من المطر
                                   حمراءَ أو صفراءَ من أجنةِ الزهر
                                   وكل ِّ دمعةٍ من الجياع والعراة
                                   وكلِّ قطرةٍ تـُراقُ من دم العبيد
                                   فهي ابتسامٌ في انتظار ِ مبسم ٍ جديد 
                                   أو حُـلمة ٌ تورّدت على فم الوليد 
                                   في عالـَم ِ الغدِ الفتي ، واهبِ الحياة .
                                   ويهطل المطر


( 11 ) غير أن هذا الأمل ، المطر الخير والخصب والحياة لا يمكن أن يأتي دون
          القرابين، دون الفداء. والمضطهدون عليهم – ليس مجرد المطالبة بحقوقهم-
          بل انتزاعه بالقوة ، بالدماء ، بالتضحية . في قصيدة ( إلى جميلة بوحيرد )
          البطلة الجزائرية ، يعرض الشاعر استعباد الآلهة الأصنام للبشر رمزاً لاستعباد
          الطغاة للشعب . كان الناس قديماً يلتمسون آلهتهم ويقدمون لها القرابين :


"يا ربّ عطشى نحن . هات المطر !
                            روِّ العطاشى منه ، روِّ الشجر "


         غير أن محفل الآلهة قد ولـّى اليوم ، وتحطمت بالدماء كل التيجان، فجميلة
         البطلة – لا عشتار الإله – سوف ترّوي بالمطر قلوب الفقراء :


واليومَ ولى محفلُ الآلهة
اليومَ يـُفدي ثائرٌ بالدماء
                                 الشيبَ والشبانَ ، يـُفدي النساء
                                 يُـفدي زروعَ الحقل ِ ، يُـفدي النـَماء
                                 ......   .......  .......    ....... .......
                عشتار ، أمّ ُ الخصبِ ، والحـُبِ والإحسان ِ ، تلك الربّة ُ الوالهة
              لم تـُعطِ ما أعطيتِ ، لم تـُرْو ِ بالأمطار ما رويّتِ : قلبَ الفقير
 



( المطر: الطبيعة – المكان و الزمان )


( 1 ) المطر مظهر من مظاهر الطبيعة الخيرة الكريمة التي تجود بعطائها على كل
       الناس ، لكن النفوس الشريرة من المتسلطين تتحكم بخيرات السماء ، وتتحكم
       بالتالي في رقاب الناس . في قصيدة ( عرس في القرية ) يعرض صورة أخرى
       من صور اضطهاد الفقراء حين لا يملكون حقهم حتى في الحب والزواج ، فقد
       امتدت يد أحد الأغنياء الموسرين لتنتقي إحدى بنات القرية، رامزاً بهذا الزواج
      غير الشرعي بين الأجنبي وابنة الريف لحق الشعوب المضطهدة المضاع .
      ويعطي الشاعر للطبيعة هنا بعداً وجودياً ، إذ هي ملتحمة ٌ بالإنسان، فهي مصيره
      وقدره ، وجذوره ممتدة بها ، لا يمكن فصله عنها إلا بالقلع ، وهذا ما حدث
      ل( نوار ) – فتاة القرية التي اشتراها ذلك الصيرفي الشقي بحفنة من ذهب،
      وبالتالي حي يسأل الشاعر( نوار ) كيف ارتضت بهذا الزواج ، تأتي الطبيعة
      بنخيلها وأقمارها وأمطارها وأنهارها – لا بالمعنى الرومانسي – بل كشواهد على
     إدانة ابنة الريف العاقة التي فضلت الأجنبي على أبناء جنسها:


                                 بالصباباتِ يا حاملاتِ الجـِرارْ
                                 رحن واسألنها :"يا نوار   
                                 هل تصيرين للأجنبي الدخيل ؟
                                  للذي لا تكادين أن تعرفيه ؟ 
                                  يا ابنة الريف ، لم تنصفيه !
                                  كم فتىً من بنيه
                                  كان أولى بأن تعشقيه ؟
                                  إنهم يعرفونك منذ الصغر . . .
                                  مثلما يعرفون القمر . . .
                                  مثلما يعرفون حفيف النخيل
                                  و ضفاف النهر
                                  و المطر
                                  والهوى ، يا نوار. . .  " 


( 2 ) والسياب الذي خرج من قريته إلى مركز المدينة طالباً في المرحلة الثانوية ، ثم
        إلى العاصمة طالباً في دار المعلمين العالية ، وإقامته في أكثر من مدينة عراقية
        وغير عراقية مدرساً وموظفاً وعاملاً، قد خبر المدينة جيداً، ووعى تناقضاتها ،
        ووقع تحت قهرها ، واكتوي بمعاناتها ،  وافترسته دروبها ، فكانت جيكور
        القرية ( قرية الشاعر ) هي الملاذ الأول والأخير ، وهي الصدر الحنون الذي
        يأوي إليه كلما ضاقت به الحياة – كما سنرى فيما بعد في سنوات مرضه
        الأخيرة - . فالمدينة في قصيدة ( جيكور والمدينة ) :


                                 وتلتفُّ حولي دروبُ المدينة :
                                 حبالاً من الطين يمضغن قلبي
                                 ويُـعـطين ، عن جمرة ٍ فيه – طينه ،
                                 حبالاً من النار يجلِدْنَ عـُريَ الحقول ِالحزينة
                                 ويـُحـْرقن جيكورَ في قاع روحي
                                 ويزرَعن فيها رمادَ الضغينة 


( 3 ) إذن المدينة هي كل الشر، وكل من فيها مستعبدُ لشيطان جبار هو المال ( رب
        فاوست الجديد ) ، لا مكان فيها للفقير والطيب . هذه المدينة هي باب الفسق
        والفجور والقهر والاستلاب ، ومن يحاول إنقاذها  فمصيره الهلاك لأن المادة
        سيطرت على إنسان المدينة ، وهنا من خلال أسطورة تموز الذي يحاول أن ينير
        دروب المدينة المظلمة فيموت وتندبه أمّه :


                                ترفعُ بالنواح صوتـَها مع السحرْ
                                ترفع بالنواح صوتها ، كما تنهـّد الشجرْ
                                تقول :"يا قطار ، يا قدرْ
                                قتلتَ – إذ قتلتـَه – الربيعَ والمطرْ "


( 4 ) لكن تموز الذي ( أراد أن يبدد الظلام . . انتحر ) وبالتالي ستبقى المدينة في
       ظلام ، بلا خصب ، بلا ربيع ، بلا حب ، تعيش في جفاف روحي وفاقة نفسية .
       وعليه ليس أمام الشاعر سوى العودة إلى جيكور ، فردوسه المفقود ( لا بالمعنى
       العاطفي الرومانسي ) ،لأن جيكور هي الأخرى حزينة ، إذ أصابها الجفاف أيضاً
       وهجرها أهلها ، بل أنه –  بعد أن تمرغ في تراب المدينة – لا يقوى على إعادة
       الحياة إلى طين جيكور :


                       وجيكور من دونها قام سورٌ
                                                          وبوابة ٌ    
                                                                   واحتوتها سكينة                                                                                                                                                                                                        
            فمن يخرِق ِ السورَ ؟ من يفتحِ ِ البابَ ؟ يـُدمي على كل قـُفل يمينه ؟
            ويمناي : لا مخلبٌ للصراع فأسعى بها في دروب المدينة
            ولا قبضة ٌ لابتعاث الحياة من الطين . .
            لكنها مَحْضُ طينه
            وجيكور من دونها قام سور
                                              وبوابة
                                                       واحتوتها سكينة .


( 5 ) وتبقى القرية في ذاكرته ، ويستحيل نهيرها الصغير بويب إلى نهر من السعادة
        الماضية والطفولة والذكريات ، أجراس تقرع في خاطره ، ولا يكون المطر
        والنهر والماء مظهر من مظاهر الطبيعة فحسب بل يعبر بذلك عن ينبوع الطبيعة
        واتصال الإنسان به ، و العودة إلى النهر هي العودة إلى الجذور ، إلى السعادة 
        الصافية التي توهبها القرية – لا سعادة المدينة المؤطرة بالمعاناة ، معاناة حفار
        القبور والمومس العمياء . في قصيدة ( النهر والموت ) يعصف الحنين بالشاعر
        إلى القرية وذكريات طفولته بها ، تلك السعادة التي أضاعتها المدينة بقسوتها
        وجبروتها وماديتها ، أنها عودة  إلى النبع الصافي ، إلى الروح في ترنيمة
        وجدانية تمتلىء بالصور العاطفية الجميلة :


                                             بُـوَيْـبْ. . .
                                             بُـوَيْـبْ . . .
                                             أجراسُ برجٍ ٍ ضاع في قرارة البَحَرْ
                                             الماءُ في الجـِرار ، والغروبُ في الشجر
                                             و تنضحُ الجـِرارُ أجراساً من المطر
                                             بلـّورُها يذوب في أنين ْ
                                             "بُوَيْبْ . . . يا بُوَيْبْ ! "،
                                             فيَـدْلـَهـِمُّ في دمي حنين


Viewing all articles
Browse latest Browse all 578

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>